فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أراه الله تعالى بعض الذي توعدهم بما لقوا من القحط سبع سنين بدعوته عليهم، وبما أصابهم يوم بدر من الإهانة، وقتل صناديدهم، كما أشار إليه قوله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلّم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلًا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 10 16].
والدخان هو ما كانوا يرونه في سنين القحط من شبه الدخان في الأرض.
والبطشة الكبرى: بطشة يوم بدر.
وتأمَّلْ قوله: {ثم تولوا عنه} وقوله: {إنا منتقمون}.
ثم كف الله عنهم عذاب الدنيا إرضاء له أيضًا إذ كان يود استبقاء بقيتهم ويقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.
فأما الكفر بالله فجزاؤه عذاب الآخرة.
فطوي في الكلام جمل دلت عليها الجمل المذكورة إيجازًا محكمًا وصارت قوة الكلام هكذا: وإمّا نعجل لهم بعض العذاب فنرينك نزوله بهم، أو نتوفينك فنؤخر عنهم العذاب بعد وفاتك، أي لانتفاء الحكمة في تعجيله فمرجعهم إلينا، أي مرجعهم ثابت إلينا دومًا فنحن أعلم بالحكمة المقتضية نفوذ الوعيد فيهم في الوقت المناسب في الدنيا إن شئنا في حياتك أو بعدك أو في الآخرة.
وكلمة: {إما} هي (إن) الشرطية و(ما) المؤكدة للتعليق الشرطي.
وكتبت في المصحف بدون نون وبميم مشددة محاكاة لحالة النطق، وقد أكد فعل الشرط بنون التوكيد فإنه إذا أريد توكيد فعل الشرط بالنون وتعينت زيادة (ما) بعد (إن) الشرطية فهما متلازمان عند المبرد والزجاج وصاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {فإما نرينّك} في سورة [غافر: 77]، فلا يقولون: إن تكرِمَنِّي أكرمك بنون التوكيد ولكن تقولون: إن تُكْرِمْني بدون نون التوكيد كما أنه لا يقال: إما تكرمني بدون نون التوكيد ولكن تقول: إن تكرمني.
وشذ قول الأعشى:
فإما تريْنِي ولي لِمة ** فإنَّ الحوادث أودَى بها

ثم أكد التعليق الشرطي تأكيدًا ثانيًا بنون التوكيد وتقديم المجرور على عامله وهو مرجعهم للاهتمام.
وجملة: {إلينا مرجعهم} اسمية تفيد الدوام والثبات، أي ذلك أمر في تصرفنا دومًا.
وجملة: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} معطوفة على جملة: {فإلينا مرجعهم}.
وحرف: {ثم} للتراخي الرُّتبي كما هو شأن (ثم) في عطفها الجمل.
والتراخي الرتبي كون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبةً من المعطوفة عليها فإن جملة: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} لاشتمالها على التعريض بالجزاء على سوء أفعالهم كانت أهم مرتبة في الغرض وهو غرض الإخبار بأن مرجعهم إلى الله، لأن إرجاعهم إلى الله مجمل واطلاعه على أفعالهم المكنى به عن مؤاخذتهم بها هو تفصيل للوعيد المجمل، والتفصيل أهم من الإجمال.
وقد حصل بالإجمال ثم بتفصيله تمام تقرير الغرض المسوق له الكلام وتأكيد الوعيد.
وأما كون عذاب الآخرة حاصلًا بعد إرجاعهم إلى الله بمهلة جمع ما فيه من تكلف تقرر تلك المهلة هو بحيث لا يناسب حمل الكلام البليغ على التصدي لذكره.
وقوله: {الله شهيد على ما يفعلون} خبر مستعمل في معناه الكنائي، إذ هو كناية عن الوعيد بالجزاء على جميع ما فعلوه في الدنيا بحيث لا يغادر شيئًا.
والشهيد: الشاهد، وحقيقته: المخبر عن أمر فيه تصديق للمخبر، واستعمل هنا في العالم علم تحقيق.
وعبر بالمضارع في قوله: {يفعلون} للإشارة إلى أنه عليم بما يحدث من أفعالهم، فأما ما مضى فهو بعلمه أجدر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)}
وقول الحق سبحانه: {وَإِمَّا} مكونة من إن وما مدغومتين، وهنا يبين لنا الحق سبحانه أنه يعد الذين كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة.
أي: يا محمد، إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلان وهوان، وإما أن نتوفينَّك قبل أن ترى هذا في الدنيا، ولكنك ستراه في الآخرة حين تشاهدهم في الهوان الأبدي الذي يصيبهم في اليوم الآخر.
وفي هذا تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [يونس: 46] أي: أن نريك ما وعدناهم من الخذلان والهوان في هذه الحياة، وإن لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الآخرة، حيث المرجع إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يُرى في الناس؛ كحسرة في النفس، وكبْت للأسى حين يرون نصر المؤمنين.
أما الذي يُرى فهو الأمر الظاهر، أي: الخذلان، والهزيمة، والأسى، والقتل، وأخْذ الأموال، وسَبْي النساء والأولاد، أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم بعد أن تفيض روحك إلى خالقها فسوف ترى فيهم ما وعدك الله به.
وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم، لأنه سبحانه: {شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
وكفاك الله سبحانه شهيدًا: {وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 79]. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}
قرأت فرقة: {ولكنْ الناس} بتخفيف: {لكِن} ورفع: {الناسُ}، وقرأت فرقة: {ولكنّ} بتشديد: {لكنّ} ونصب: {الناسَ}، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم، وعرف: {لكن} إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف، وقد ينخرم هذا، وقال الكوفيون: قد يدخل اللام في خبر: {لكن} المشددة على حد دخولها في: {أن} ومنع ذلك البصريون، وقوله تعالى: {ويوم نحشرهم} الآية، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض، و: {يوم} ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله: {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار}، ويصح نصبه ب: {يتعارفون}، والكاف من قوله: {كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال ويوم نحشرهم حشرًا كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله: {كأن لم يلبثوا} في موضع الحال من الضمير في: {نحشرهم} وخصص: {النهار} بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنه للجميع، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء، وأما قوله: {يتعارفون} فيحتمل أن يكون معادلة لقوله: {ويوم نحشرهم} كأنه أخبر أنهم يوم الحشر: {يتعارفون} وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض. ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في: {نحشرهم} ويكون معنى التعارف كالذي قبله، ويحتمل أن يكون حالًا من الضمير في: {يلبثوا} ويكون التعارف في الدنيا، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري، وقرأ السبعة وجمهور الناس: {نحشرهم}، بالنون، وقرأ الأعمش فيما روي عنه، يحشرهم بالياء، وقوله: {قد خسر الذين} إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى، وهذا على أن الكالم إخبار من الله تعالى وقيل: إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم، وقوله تعالى: {وإما نرينك} الآية،: {إما} شرط وجوابه: {فإلينا}، والرؤية في قوله: {نرينك} رؤية بصر وقد عدي الفعل بالهمزة فلذلك تعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف والآخر: {بعض}، والإشارة بقوله: {بعض الذي} إلى عقوبة الله لهم نحو بدر وغيرها، ومعنى هذا الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى أي إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب ثم مع ذلك فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم ف: {ثم} هاهنا لترتيب الإخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، وإما هي إن زيدت عليها ما ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت إن وحدها لم يجز. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَالَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّهَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ، وَبِتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ لَهُمْ، بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَقْسَامَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَمُسْتَقَبْلِ أَمْرِهِمْ أَوْ حَالِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَفِي عَمَلِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِهِمْ، وَعَمَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُقْتَضَى رِسَالَتِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ فِيهِمْ فَقَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، بَلْ سَيَكُونُ قَوْمُكَ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ سَيُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَقِسْمٌ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} فِي الْأَرْضِ بِالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِفَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُخْزِيهِمْ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِفَسَادِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُهُ فِي الظَّاهِرِ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ جَهْلًا وَتَقْلِيدًا، وَمِنْ هَذَا الْفَرِيقِ مَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَيَأْتِي وَصْفُ حَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ 42- 44 قَرِيبًا وَلَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرُوا التَّأْوِيلَ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي بَيَّنَّا فَسَادَهُ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِحَالِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِ التَّأْوِيلِ الْمُتَوَقَّعِ أَيْ سَيَكُونُ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مَعْنَى لِإِتْيَانِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى جَاءَ تَأْوِيلُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ وُقُوعُ الْعَذَابِ، يَكُونُ الْإِيمَانُ بِهِ اضْطِرَارِيًّا عَامًّا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (7: 53) وَتَأْوِيلُهُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَوْ بِقِيَامِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَهُ الْإِيمَانُ إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (51) وَانْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ (غَافِرٍ) [40: 82- 85] وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (46) عَدَمَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم يُؤَكِّدُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أَيْ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: لِي عَمَلِي بِمُقْتَضَى رِسَالَتِي وَهُوَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَالْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِمُسَيْطِرٍ وَلَا بِجَبَّارِ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِكُمْ وَشِرْكِكُمْ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، الَّذِي تُجْزَوْنَ بِهِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَيُقَالُ لَكُمْ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (52) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} (17: 84): {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} فَلَا يُؤَاخِذُ اللهُ أَحَدًا مِنَّا بِعَمَلِ الْآخَرِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} (11: 35) وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (26: 216).
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَسْمَعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
لَمَّا أَنْبَأَ اللهُ رَسُولَهُ بِأَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ حَالًا وَلَا اسْتِقْبَالًا، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَيَانُ مَهْمَا يَكُنْ نَاصِعًا، وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبُرْهَانُ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا، وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ مِنْهُمْ بَعْدَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي دَمْغَتْهُمْ بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ، أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَيَنْتَظِرَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ، كَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا النَّبَأِ أَنْ يُثِيرَ عَجَبَهُ لِغَرَابَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ يَسُوءَهُ لِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِقَامِ اللهِ مِنْهُمْ، بَيَّنَ لَهُ مَثَلَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَكَوْنِ مُصِيبَتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، فَقَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أَيْ يُصِيخُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ مُصْغِينَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أَوْ بَيَّنْتَ مَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِذْ يَسْتَمِعُونَ؛ إِذْ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعْقِلُونَ مَا يُرَادُ بِهِ. وَلَا يَفْقَهُونَ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْكَ مَقْصُودٌ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهِ لَا لِمَا يُرَادُ بِهِ، وَهِيَ بَلَاغَتُهُ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ بِتَرْتِيلِهِ، كَمَنْ يَسْتَمِعُ إِلَى طَائِرٍ يُغَرِّدُ عَلَى فَنَنِهِ؛ لِيَسْتَمْتِعَ بِصَوْتِهِ لَا لِيفْهَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (21: 2 و3) أَوْ كَالْبَهَائِمِ يَصِيحُ بِهَا الرَّاعِي فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا لِاسْتِمَاعِ صَوْتِهِ الَّذِي رَاعَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ رَعْيِهَا، كَمَا قَالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (2: 171) أَوْ كَمَا قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (6: 25) وَالْقَاعِدَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا. وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْصِدُونَ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَوْ فِي الْمَآتِمِ، لِيَسْتَمِعُوا إِلَى فُلَانٍ الْقَارِئِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ لِغَرَضِ التَّلَذُّذِ بِتَرْتِيلِهِ وَتَوْقِيعِ صَوْتِهِ أَوْ بَلَاغَتِهِ، وَلَا أَحَدَ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ، وَحِكَمِهِ وَعِبَرِهِ، وَلَا عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ سَمِعْتُ بِأُذُنِي مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ وَيَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ تَأْثِيرِهِ وَتَغَلْغُلِهِ فِي أَعْمَاقِ الْقَلْبِ وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي أَنَّ السَّمَاعَ النَّافِعَ لِلْمُسْتَمِعِ هُوَ مَا عَقَلَ بِهِ مَا يَسْمَعُهُ وَفَقِهَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذَا كَانَ كَالْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَمْ تُؤْتَ الْقُدْرَةَ عَلَى إِسْمَاعِ الصُّمِّ أَيْ فَاقِدِي حَاسَّةِ السَّمْعِ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ الْإِسْمَاعَ النَّافِعَ لِلصُّمِّ مَجَازًا وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهُ فَيَهْتَدُوا بِهِ. وَالْبَلَاغَةُ فِي ظَاهِرِ تَعْبِيرِ الْآيَةِ وَصْفُهُمْ بِفَقْدِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعًا، وَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مَنْ فَقَدَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ حَقِيقَةً لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا. وَإِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمَنْفِيِّ هَنَا عَقْلَ الْكَلَامِ وَفِقْهَهُ، فَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ السَّمَاعِ وَنَفْيَ الصَّمَمِ الْحَقِيقِيَّيْنِ.